فلسطين

أبعد من غزة: الحوثي يضرب تل أبيب

تفاصيل الضربة الحوثية الاستثنائية لتل أبيب، والتي تعد تطورًا مهمًا في مسار الأحداث منذ 7 أكتوبر، لماذا الحوثي بالتحديد، ومتى يمكن اعتبارها نقطة تحول؟

future صورة أرشيفية (الحوثي يضرب تل أبيب)

على نحو غير متوقع اخترقت طائرة مُسيَّرة، تحمل 40 كيلوجرامًا من المتفجرات، أجواء تل أبيب من جهة البحر قبل فجر الجمعة في الساعة 3:12 صباحًا بالتوقيت المحلي، وحلَّقت على ارتفاع منخفض لتنفجر بين بنايات وسط المدينة، وتتناثر الشظايا فتقتل جنديًّا متقاعدًا كان نائمًا في أحد الطوابق العليا، وتصيب عشرة أشخاص؛ بعضهم بشظايا، وآخرون أصيبوا بالصدمة.

أثار الهجوم هلعًا كبيرًا في إسرائيل، ورجَّح جيش الاحتلال أنها أُطلقت من اليمن من قِبل جماعة الحوثي، وأن الإيرانيين هم من طوروها. وفُتح تحقيق لمعرفة أسباب عدم رصد المُسيَّرة التي قطعت نحو 2000 كيلومتر على مدى عشر ساعات من التحليق المتواصل، وتصل إلى قلب تل أبيب دون أن تعترضها الدفاعات الجوية.

وكشفت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية أن الطائرة المُسيَّرة كانت تستهدف مبنى السفارة الأمريكية القريب من موقع الانفجار. وأعلن يحيى سريع، المتحدث العسكري باسم الحوثيين، استهداف تل أبيب بطائرة مسيرة تضامنًا مع محنة قطاع غزة. وقال:

«نفذ سلاح الجو المسير في القوات المسلحة اليمنية عملية عسكرية نوعية، تمثلت في استهداف أحد الأهداف المهمة في منطقة يافا المحتلة، ما يسمى إسرائيليًّا تل أبيب».

تطور الهجمات

اتسم الهجوم بطبيعة استثنائية؛ فبعكس كل الهجمات السابقة، هذه هي المرة الأولى التي يقع فيها قتيل إسرائيلي في هجوم حوثي، والمرة الأولى أيضًا التي تُستهدف فيها تل أبيب من الميليشيات اليمنية، خاصةً أن صواريخ المقاومة في غزة لم تطلق على المدينة منذ 26 مايو الماضي، فجاءت هذه المُسيَّرة من البحر لتعيد أجواء الرعب في المدينة من جديد.

مثَّل الهجوم تطورًا خطيرًا للتداعيات الإقليمية لحرب غزة، أو بعبارة أخرى بدء مرحلة جديدة من المواجهة بين الكيان الصهيوني ومحور المقاومة بقيادة إيران، وذلك بانخراط جبهة اليمن في هجوم بهذا المستوى في ظرف تبدو فيه المنطقة على فوهة برميل بارود قابل للانفجار في أي وقت على خلفية العدوان على غزة.

فالهجمات الحوثية جزء من استراتيجية إيرانية للاشتباك مع الكيان العبري بشكل محسوب، والتصعيد ضده دون الوصول إلى حالة الحرب الشاملة، فطهران أعلنت رسميًا وبوضوح منذ اليوم الأول رفضها الانخراط في حرب غزة بشكل مباشر، لكنها ظلت حاضرة في المشهد الميداني بقوة عبر دعم وتوجيه الفصائل التي تقاتل الاحتلال.

انخرطت إيران بشكل غير مباشر في التصعيد العسكري منذ اليوم التالي للحرب، الثامن من أكتوبر، عبر حزب الله اللبناني، ثم دفعت بالميليشيات في سوريا والعراق لشن بعض الهجمات. ثم لاحقًا صعَّدت ميليشيا الحوثي اليمنية من انخراطها في المشهد تدريجيًا؛ ففي 19 أكتوبر الماضي اعترضت القوات الأمريكية صواريخ أُطلقت من اليمن كان يُعتقد أنها تستهدف إسرائيل، ثم في 19 نوفمبر استولى الحوثيون على السفينة جالاكسي ليدر التي يملكها رجل أعمال إسرائيلي. وفي 24 نوفمبر أطلق الحوثيون صواريخ ومُسيَّرات ضد الاحتلال، لكنها ظلت هجمات أقرب للرمزية، رغم الإعلان الحوثي المتكرر عن نجاحها في بلوغ أهدافها.

بحسب الجيش الإسرائيلي، أطلقت الجماعة اليمنية أكثر من مائتي طائرة بدون طيار وصواريخ كروز على إسرائيل، تصدت لها الدفاعات الإسرائيلية والأمريكية، ولم يكن لها أي أثر تدميري فعلي، وتركز أكثر الهجمات على إيلات جنوب فلسطين، وشارك الحوثي في بعضها مع ميليشيات شيعية عراقية ضد ميناء حيفا على البحر المتوسط.

لماذا الحوثي؟

من بين الأذرع العسكرية ضمن المحور الإيراني، كان الحوثي هو الطرف الأنسب ليمارس التصعيد العسكري ضد إسرائيل، فتقريبًا ليس لديه ما يخسره؛ فقد ازدهر حكم الجماعة في ظل حملات قصف يومي امتدت منذ 2015 حتى 2022، واستطاعت التكيف مع حالة الحرب الدائمة عبر تلك السنوات، ولم تكن الهجمات الجوية الأمريكية والبريطانية مؤثرة كثيرًا على قدرات الجماعة، فقد فشلت في ردعها عن استهداف السفن في البحر الأحمر، وتوسع نطاق الاستهداف ليشمل غرب المحيط الهندي.

يمتلك الحوثي مجالًا واسعًا لحرية الحركة مقارنة بوضع ميليشيات الحشد الشعبي الموالية لطهران في العراق، والتي تتبع رسميًا للحكومة، وتُحسَب تصرفاتها عليها. كذلك يقاتل حزب الله اللبناني بشكل يومي مستمر، لكن وفق حسابات دقيقة وبحذر شديد خشية فتح جبهة أعلن الاحتلال مرارًا استعداده للقتال فيها، وهدد بإعادة لبنان للعصر الحجري، وكذلك تعمل الميليشيات في سوريا تحت قيود كثيرة وتتعرض لاستهداف إسرائيلي لا يتوقف.

هكذا ساعدت ظروف الحوثيين على التصعيد، وعملوا على استثمار الظروف، فبمجرد انطلاق عملية طوفان الأقصى حاولوا إظهار أكبر قدر من التضامن الإعلامي مع غزة، ونظموا مسيرات حاشدة. ومن المهم الإشارة إلى أنه سبق تلك اللحظة مباشرةً احتجاجات شعبية واسعة ضد الجماعة، بدأت في 26 سبتمبر، وأخمدها الحوثيون بشن حملة اعتقالات نالت أكثر من ألف شخص.

ومع توجه الاهتمام الشعبي نحو غزة ظهرت موجة من السخرية والانتقاد للحوثي؛ لأنه يرفع شعار الموت لإسرائيل ويرفض إطلاق رصاصة نحوها، رغم مناشدة حركة حماس له المشاركة منذ الساعات الأولى لانطلاق طوفان الأقصى، ومع التعاطف الشعبي الواسع مع فلسطين شبَّه اليمنيون الحوثيين بإسرائيل؛ لأنهم ارتكبوا مجازر وحشية، خاصةً في محافظات الشمال اليمني التي يبسطون سيطرتهم عليها.

لكن مع بدء الانخراط الحوثي في هجمات ضد السفن الإسرائيلية وتوجيه صواريخه نحو إيلات، تغيرت المعادلة، واكتسب شرعية أمام الشعب اليمني والشعوب العربية بصفته جبهة مقاومة وإسناد لغزة. واستغل الحوثي الوضع لتقوية وضعه الداخلي والاستيلاء على المزيد من أراضي القبائل المناوئة له، كما وسَّع هجماته ضد خصومه المحليين الموالين للحكومة وللسعوديين، كما في محافظة مأرب على سبيل المثال، التي شهدت معارك طاحنة خلال الفترة الماضية.

كذلك توسَّع الحوثيون في تجنيد المدنيين في صفوفهم تحت شعار نصرة فلسطين، والتصدي للعدوان الأمريكي البريطاني على اليمن، ورصدت منظمة هيومان رايتس ووتش تجنيد الآلاف من الأطفال منذ انطلاق حرب غزة في السابع من أكتوبر، بعضهم لا تتجاوز أعمارهم 13 عامًا، وافتُتحت معسكرات تدريب وتطوع خرّجت أكثر من 70 ألف مقاتل جديد في ثلاثة أشهر فقط في فترة بداية الحرب.

قدرات الحوثي

منذ نوفمبر 2023، استطاع الحوثي فرض سيطرته النيرانية على مسارات الملاحة الدولية القريبة، وكشفت تقارير استخبارية حصول الحوثيين على إتاوات تذهب إلى حسابات مصرفية خارجية تابعة لشركات يملكها المتحدث الرسمي باسم الجماعة، محمد عبد السلام، مصدرها شركات شحن أوروبية تمر سفنها بباب المندب؛ إذ يتنصل الأوروبيون من التصنيف الأمريكي للحوثيين كمنظمة إرهابية.

يُقدَّر متوسط المبلغ المالي الذي يأخذه الحوثيون على كل سفينة بنحو نصف مليون دولار، وهو أقل من تكلفة المرور عبر رأس الرجاء الصالح بدلًا من البحر الأحمر. وقبل تصعيد هجمات الحوثي، كانت ستون سفينة تعبر مضيق باب المندب يوميًا، لكن مؤخرًا هبط العدد إلى نحو 12 سفينة.

بعد ضربة تل أبيب أعلن المتحدث العسكري باسم الحوثيين أن العملية نُفذت بطائرة مسيرة جديدة لا تستطيع الرادارات كشفها ولا وقفها؛ لذلك تجاوزت المنظومات الاعتراضية كلها وأصابت أهدافها بنجاح، لكن مسئولًا عسكريًا إسرائيليًا قال إن المسيرة رُصدت، لكن بسبب خطأ بشري لم تُشغَّل أنظمة الاعتراض والدفاع.

وقد تكون الدعاية الحوثية بالغت في تضخيم قدرات المُسيَّرة؛ فقد ذكرت تقارير إعلامية أن الحوثيين شنوا خمس هجمات جوية على تل أبيب، بصاروخ باليستي وأربع مُسيَّرات، أسقطها الأمريكيون جميعًا باستثناء المُسيَّرة التي وصلت لقلب تل أبيب، والتي ربما فوجئ الحوثي بنجاحها.

ولم يستبعد بعض المراقبين أن يكون الهجوم نُفِّذ من منطقة غير يمنية، واقتصر دور الحوثي على إعلان المسئولية، ورغم أن هذا السيناريو له سوابق مشابهة، فإنه لا دلائل تدعمه، بل الأرجح أن اليمن مصدر الهجوم بالفعل.

وتُصنَّف المسيرة – وفق المصادر الإسرائيلية - بأنها من نسخة محدّثة من طراز صماد-3، وهي مسيرة إيرانية الصنع جرى تقليل حجم المتفجرات فيها من أجل زيادة الوقود. وهذه التسمية تعود إلى صالح الصماد، رئيس ما يُسمى بالمجلس السياسي الأعلى، والذي قُتل في غارة جوية للتحالف العربي بزعامة السعودية، في أبريل 2018. بينما أطلق الحوثيون على هذه المُسيَّرة المُحدَّثة اسم يافا، وهو اسم المدينة الفلسطينية التي أقيمت تل أبيب على أرضها.

ومن المعروف أن الحوثيين يستخدمون أسلحة إيرانية تُهرَّب عبر خليج عمان والبحر الأحمر، ويساعدهم كذلك خبراء عسكريون من إيران؛ إذ يمنح الوجود العسكري الحوثي في المنطقة طهران ورقة قوة مهمة، ويدعم موقفها في مواجهة الغرب، ففي ديسمبر الماضي، أعلن وزير الدفاع الإيراني، محمد رضا أشتياني، أن دولته أصبح لها سيطرة في البحر الأحمر، وحذر من الجهود الغربية لحماية الملاحة في باب المندب من هجمات الحوثي.

إجمالًا، يمكن اعتبار الضربة الحوثية لتل أبيب تطورًا مهمًا في مسار الأحداث منذ السابع من أكتوبر، ولكنه ربما يكون نقطة تحول في الأحداث إذا استتبعه تغير في السلوك الحوثي والإسرائيلي بعضهما تجاه بعض، سواء من خلال تكرار الحوثيين هذه الهجمات بالفاعلية نفسها – إن كان ذلك في مقدورهم - أو تغير الاستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع الحوثي وفتح جبهة جديدة في البحر الأحمر.

# تل أبيب # الحوثيين # طوفان الأقصى # غزة # إيران # اليمن # إسرائيل

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
تل أبيب: قصة الحي الشعبي الذي أصبح قلب إسرائيل
الشابات: كيف نفهم حياة الحريديم في الأراضي المحتلة؟

فلسطين